فرنسا تعيد الحجاب للأضواء
د. لطف الله بن ملا عبد العظيم خوجه
بسم الله الرحمن الرحيم
فرنسا تعيد الحجاب للأضواء
كنت أنوي الكلام بجمل يملؤها الحزن والهم والضيق، على ما حاق بأخواتنا المحجبات في فرنسا ساركوزي منذ الإثنين الماضي [7/5/1432 الموافق 11/نيسان إبريل2011] حيث بدء بتطبيق حظر غطاء الوجه في الشوارع، وغرمت المحجبات مبلغ وقدره 150يورو (=216دولار)، واعتقلن على الملأ وسحبن بأيدي رجال الشرطة إلى المخافر.
غير أن شعورا غمرني – في لحظة صفاء - كله تفاؤل واستبشار واستشراف مستقبل مشرق، لا أدري كيف هجم علي، وجعلني تحت سطوته، أحببت إشراككم فيه ؟!..
ما يحدث يصب في مصلحة هذه الشعيرة المعظمة، فإن الحجاب من شعائر الإسلام، فبلاد المسلمين كانت تعرف بشيئين للغريب إذا حل بها: حجاب النساء، ومنارات المساجد. أقول: ما يحدث في مصلحة الشعيرة، التي كادت أن تغيب، بسبب من الكارهين للحجاب جملة وتفصيلا في المقام الثاني، وفي المقام الأول من المتأولين خطأ – وبعضهم من المحرفين – لنصوص الحجاب، الزاعمين: أن حجاب الوجه قول مرجوح، أرجح منه الكشف. الذين أمروا نساء فرنسا المسلمات - ومنهم فرنسيات بالأصل- بالامتثال للقرار، وبعضهم أيد قرار فرنسا، و أخرون "شدوا" على يد ساركوزي.
وكيف يكون المنع والتغريم في مصلحة الحجاب ؟!. ألا يدعو ذلك للكشف، والقضاء على هذه الشعيرة، مخافة المحاسبة والغرامة والإذلال والإهانة ؟.
الجواب: كلا، فكافة التجارب الحية - الآن أو في السابق – أثبتت أن العقيدة والقناعة إذا حوربت وحوصرت علنا بالقسر والقوة والصدام، رسخت وتأكدت ونمت، حتى ترجع أقوى مما كانت.. تجتاز كل نقاط ضعفها، وتسد كافة ثغراتها؛ لتعود أحصن وأمنع؛ لذا منع الله تعالى إكراه الناس على الإسلام: {لا إكراه في الدين}، وأمرهم بالدعوة.
وأوربا - وفرنسا بالخصوص - تدرك ذلك أكثر من غيرها؛ فهي دول استعمارية، جربت احتلال الدول بالقوة، وأرادت ضمها إلى الأبد، لكنها أدركت بعد عقود، بعدما تكبدت خسائر فادحة، استحالة السيطرة على أمم ذات ثقافة بالقوة والعنف، فخرجت وسلمت البلاد إلى أبنائها، وقد غيرت خطتها إلى ما يسمى اليوم بـ"القوة الناعمة"، أو ما نسميه نحن بـ "الغزو الفكري"، فنجحت أكثر مما لو كانت محتلة.
مع معرفتها بهذه الحقيقة، إلا أنها اليوم ترتد على قناعاتها، وتبدأ في حصار الحجاب، جاهلة بالعواقب التي تنتظرها وأوربا إن حذت باقي الدول حذوها:
سيزداد عدد المحجبات؛ فإن المؤمن بقضية لا يقبل التخلي عنها بسهولة، ولا يخيفه الوعيد، ولا حتى القتل، وقد حاصرت الشيوعية في الاتحاد السوفيتي الإسلام بكافة تفاصيله وأحكامه، فما مات بل وجد له منافذ؛ لأنه سيل متدفق، لا يُحتوى ولا يُحصر؛ لا يحتوى لأنه يفيض بكثرته وتدفقه المستمر، ولا يحصر لأنه يهجم ويحطم كل السدود.
وهذه المقدمات بادية، فلم يردع القانون أحدا من المحجبات، بل خرجن في أول يوم الحظر متحديات، غير مباليات بما يكون؛ لأنهن مؤمنات قانتات حافظات للغيب بما حفظ الله، ولو علم الجاهلون، كيف تلذذ المؤمن والمؤمنة بما يصيبه في ذات الله تعالى، وفرحه بالضراء دون أن يسعى فيها، كما يفرح غيره بالسراء، لتركوه وأعرضوا عن الإضرار به.
ومن حسن تقدير الله تعالى الذي كان أسرع من قانونهم العقابي، أن أحد تجار فرنسا المسلمين، وهو من أصل جزائري، تبرع هو وزوجه بعمارة لهما، لتسديد كافة الغرامات اللاحقة بالمحجبات: (ربح البيع يا أبا يحيى، ربح البيع).
لقد توارى الحجاب الشرعي وضعف حضوره، منذ طغى الحجاب العصري، الذي اكتفي فيه بغطاء الرأس، ثم ترك الباقي بلا حجاب، إلا ما كان من ملابس وثياب، حتى ظن جمهرة من المسلمين والمسلمات، أن هذا هو صورة الحجاب الشرعي النبوي، الذي عليه الصحابيات، رسّخ هذا في نفوسهم فتاوى مضللة، أو ضعيفة البحث والنظر.
ومع هذه الهجمة، ستحدث انتفاضة لحق هذه الشعيرة، بالدفاع عنها وبالبحث في معناها وحدودها، فكل أزمة تفرز وتحدث شيئا لم يكن؛ لأنها تعيد القضية للأضواء، فتأخذ حقها من البحث والتفتيش، ليس من مجموعة، بل من جماعات كثيرة وأفراد، وهذه العملية كفيلة ببيان الحق في المسألة؛ أن الحجاب الذي نزل من السماء أمرا على النساء المؤمنات، هو: ما غطى سائر البدن بما فيه الوجه. وبه استحق هذا الاسم.
لأن الحجاب هو: ما حجب الكل، وليس ما حجب الجزء وبعض الشيء.
فالحجاب حاجز النظر عن المحجوب، ويقال عن الشيء: محجوب. إذا لم ير منه شيء ألبتة، فإذا كانت العين تنظر إلى وجه المرأة وكفيها فليست محجبة، ولو غطي باقي البدن.
سنعطي إلماحة سريعة حول هذا المعنى، ونستدل لا أقول لمشروعية الحجاب، بل لوجوبه، من جهتين: الشرع، والعقل.
لنبدأ بالعقل؛ مما لا يختلف عليه: أن المرأة إغراء للرجل، وهذا في مصطلح العصر، وفي مصطلح الشرع يقال: "فتنة". بمعنى: أنها تجذب الرجل إليها، وهذه حقيقة حاول طائفة من المتلاعبين التشكيك فيها، وادعوا أن اعتبارها كذلك، هدر لإنسانيتها، فجعلوا الناظر بين أمرين: إما اعتبار المرأة إنسانا، أو إغراءً وفتنة.
وأنه لو عدها فتنة وإغراءً، فقد نال من إنسانيتها.
وما أدري ما معنى هذا؟. هل معناه أنه حكم على المرأة بالحيوانية ؟!.
كلام فيه تضليل وتحايل؛ فالإغراء والفتنة ليست مقابلة ولا معارضة للإنسانية، بل جزء منها، فهي إنسان، ومن إنسانيتها أنها إغراء للرجل وفتنة، كما أن من إنسانية الرجل، أنه فتنة كذلك للمرأة، وإنما اختصت المرأة بهذا الوصف، لكونها أقوى وأبرع.
ومن دلائل تداخل الإنسانية والإغراء: أن في تكوين المرأة حب هذا الإغراء، وتسعى فيه بجد ورغبة، وما حرصها البالغ على الزينة بالمال الكثير إلا علامة. ولو فقدت هذه الخاصية، فهو عندها نقص لا ينجبر. وفي الغرب المتحرر كليا، إذا عجزت الفتاة عن إيجاد شريك، توجهت إلى العيادات للنظر في حالها، وسبب خلوها من خاصية الإغراء والفتنة.
القصد من هذا: ثبوت هذا الوصف عقلا وشرعا. لجذب الرجل بغرض المودة والتمتع وتحصيل النسل. ولأجل منع أي تمتع خارج حدود الزوجية، جعل الإسلام لذلك حدودا، فمنها: الحجاب. فهل يعقل بعد معرفة الأثر العارم للمرأة على الرجل، أن يفرض:
أن الشارع أوجب على المرأة حجب كافة بدنها بالجلباب إلا وجهها وكفيها ؟.
كلا؛ لأن الشارع إذا جعل المنع من شيء مقصدا وغاية، لم يفتح الطريق إليه مشرعا. جعل المنع من الشرك مقصدا، وسد كل منافذه، كذلك منع من الزنا، وسد كل منافذه.
فمن أقر أن الشارع حرم التمتع بالمرأة خارج الزوجية، ثم قال: إنه أباح كشف الوجه. فقد نسب إلى الشريعة التناقض؛ أن منعت المحرم، ثم أباحت ما يثير النفس إليه بلا داع.
ألقاه في اليم مكتوفا وقال له إياك إياك أن تبتل بالماء
نعم، إن نصف محاسن المرأة في وجهها، والنصف الباقي على الباقي.
فلا يوجد جزء يحوي أنواعا من الجمال مثله؛ تغنى الشعراء بالعين والرمش، والمحاجر، والحَوَر، والجفون، ثم الخد والوجنة والذقن والأذن والعارضين والشعر، وما أدراك ما الشعر؟.
فأي مصلحة في كشف هذا الجزء المفسد لقلوب الوالهين، السالب لعقول المتلهفين ؟.
من أجاز الكشف ذكر مصلحتين: الشهادة، والبيع والشراء.
غير أنه لو عددنا نسبة الشاهدات في المحاكم، لم تتجاوز واحد على المليون، ثم هؤلاء الشهادات إذا كشفهن للشهادة، فما الموجب والمحرض لاستدامة الكشف بعد الشهادة ؟.
كذلك، ليس الحجاب مانعا من البيع، ونحن نرى النسوة يبعن منقبات، ثم لو جاز لهن الكشف لأجل البيع، هل هن يبعن طوال اليوم حتى يستدل بذلك على جواز الكشف مطلقا ؟.
رأي ضعيف وقول مرجوح ليس له وزن في ميزان العقل والواقع، والصحيح أن التغطية فريضة وشعيرة، نطقت بها نصوص القرآن الكريم، أورد منها آيتين باختصار شديد.
قال تعالى: {وإذا سألتموهن متاعا فاسألوهن من وراء حجاب ذلكم أطهر لقلوبكم وقلوبهن}.
أية صريحة في تغطية الوجه، اتفق كافة العلماء على هذا المعنى، لكن المجيزين خصوها بأزواج النبي صلى الله عليه وسلم، وليس بشيء؛ لأن الآية معللة: {ذلكم أطهر لقلوبكم}. فالحاجة إلى طهارة القلب عامة في جميع النساء، فإذا عمت الحاجة عم الحكم.
وقوله تعالى: {يا أيها النبي قل لأزواجك وبناتك ونساء المؤمنين يدنين عليهن من جلابيبهن}.
ذكرت ثلاثة فئات للنساء، كلهن أمرن بأمر واحد بصفة واحدة: إدناء الجلباب. إذن صفة حجاب جميع النساء واحدة، وهذا يرد على من خصص الآية الآنفة بالأزواج.
بقي أن نعرف ما صفة الحجاب ؟. أهو تغطية الوجه، أم كشف الوجه.
نجد الآية ذكرت أزواج النبي صلى الله عليه وسلم ضمن المأمورات بإدناء الجلباب، وحجابهن هو التغطية، إذن البقية حكمهن حكم الأزواج: التغطية للوجه.
وبهذا المعنى قال ابن عباس: "أمر الله نساء المؤمنين إذا خرجن من بيوتهن لحاجة، أن يغطين وجوههن من فوق رؤوسهن ويبدين عينا واحدة". وعليه كافة المفسرين.
بقي أن نقول: إن في الموقف المشرف لمسلمات فرنسا المحجبات درسا لنسائنا، أن يشكرن الله على الحجاب، الذين ربين عليه ونشأن، وأن يتمسكن بهذه الشعيرة، فبعض النساء تخلين عنها، واستبدلن الأدنى بالذي هو خير، حتى وصلت الغربة بالحجاب إلى حد أن المسلمة صارت تعاني في بلدها المسلم، ومن إخوتها المسلمين، ما تعانيه المسلمة في فرنسا.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]