ما هو نمط النمو في مصر؟!
محمد حسن يوسف
مدير عام بنك الاستثمار القومي
عند البحث في نمط النمو الذي حدث في مصر خلال الثلاثين عاما الماضية، يساعدنا كثيرا في ذلك الأمر كتاب الدكتور إبراهيم العيسوي المعنون: الاقتصاد المصري في ثلاثين عاما. وهذا الكتاب هو من الكتب الهامة التي تؤرخ للاقتصاد المصري، ويعتبر مع كتاب الدكتور علي الجريتلي " خمسة وعشرون عاما: دراسة تحليلية للسياسات الاقتصادية في مصر 1952 – 1977 " من أهم الكتب التي ترصد مسار النمو و التنمية في مصر منذ ثورة يوليو 1952 وحتى السنوات الأولى من الألفية الثالثة.
وفقا للأرقام التي أوردها الدكتور العيسوي في كتابه، كان نصيب مساهمة الصناعة التحويلية في الناتج المحلي الإجمالي خلال السنوات 1980 – 1990 هو 18%، زاد إلى 19% خلال الفترة 1990 – 2003. بينما كانت تلك النسب في الصين هي 33% و39% خلال الفترتين المذكورتين على التوالي، وفي ماليزيا 24% و31% على الترتيب، وهي أرقام تدعو للتأمل بلا أدني شك.
وبأخذ القطاعات السلعية ككل في التحليل ( والتي تضم الزراعة والصناعات الاستخراجية والصناعات التحويلية والكهرباء والمياه والتشييد )، نجد أن أقل من نصف النمو المتحقق في الناتج المحلي الإجمالي ( نحو 44% ) كان يأتي من تلك القطاعات، في حين كانت القطاعات الخدمية تتكفل بالقدر المتبقي ( 56% ). وقد تميزت تلك الفترة بحدوث بعض التقلبات في مساهمة تلك القطاعات. على أن هذه النسبة شهدت تغيرا طفيفا باتجاه القطاعات السلعية بدءا من عام 2004/2005 وخلال الفترة حتى 2009/2010، حيث بلغت 51.4% تقريبا وفقا لأرقام وزارة المالية، تنخفض إلى 31.3% إذا اقتصرنا على الزراعة والصناعات التحويلية.
وبأخذ تطور أعداد العمالة في الاعتبار، نجد أن القطاعات السلعية كانت تجتذب نحو 5.9 مليون مشتغل في عام 1975، وبنسبة 62.7% من إجمالي عدد المشتغلين في مصر. إلا أن هذه النسبة أخذت في التراجع، حيث بلغ عدد المشتغلين في القطاعات السلعية نحو 9.6 مليون مشتغل يمثلون نحو 50% فقط من إجمالي عدد المشتغلين في القطاعات السلعية. أي أنه بالرغم من الزيادة الكلية في عدد المشتغلين في القطاعات السلعية، إلا أن وزنهم النسبي قد أخذ في الانخفاض تدريجيا لصالح القطاعات الخدمية.
في تفسير ذلك الأمر، نجد ارتباط تلك التطورات بالتراجع في مسيرة التصنيع في مصر بشكل عام، وبضعف قدرة بعض القطاعات السلعية التي شهدت نموا ملحوظا خلال تلك الفترة في استيعاب مزيد من العمالة فيها، مثل قطاع البترول على سبيل المثال. كما يرتبط ذلك بتطبيق سياسة خصخصة شركات القطاع العام التي بدأت مصر في إتباعها منذ التسعينات من القرن الماضي، والتي كانت تتعلق في معظمها بشركات تعمل في مجال القطاعات السلعية. بالإضافة إلى انحياز القطاع الخاص الحديث لأساليب الإنتاج قليلة الاستيعاب للعمالة. كما يمكن تفسير الزيادة في النصيب النسبي للقطاعات الخدمية من التشغيل إلى ازدياد التوظف في كل من الجهاز الإداري والهيئات الخدمية والإدارة المحلية للدولة في محاولة منها للتخفيف من وطأة البطالة.
في ضوء كل ما سبق عرضه، يمكننا أن نقوم باستخلاص عدة أمور، يمكن إيجازها فيما يلي:
أولا: أن مصر لم تكن نشازا منفردا في سياق الاتجاه العالمي نحو الاعتماد على القطاعات الخدمية بشكل أكبر خلال الثلاثين عاما الماضية. فعلى الرغم من أن الفترة التي امتدت منذ انطلاق الثورة الصناعية في العالم الحديث وحتى فترة ما بعد الحرب العالمية الأولى، كان الاهتمام منصبا على الاتجاه نحو التصنيع industrialization على مستوى العالم، نجد أن هذا الاتجاه قد بدأ في التغير بعد ذلك نحو الاعتماد على القطاعات الخدمية، وبصفة خاصة الخدمات المالية الحديثة، وهو ما يمكن أن يطلق عليه financialization.
ثانيا: أن هذا التوجه كان هو السمة الرئيسية للدول المتقدمة، حيث طبقته داخل اقتصاداتها، وحاولت فرضه على جميع الدول الأخرى بشتى الوسائل والأدوات، حيث مثّل كل من صندوق النقد والبنك الدوليين الذراع القوية التي فرضت تلك السياسة على دول العالم الثالث.
ثالثا: أن هذا الاتجاه الذي اتبعته الدول المتقدمة، والذي كان يخدم مصالحها هي بالطبع، كان يتم وفقا لسياسات الليبرالية الجديدة، والتي لم يكن مسموحا لأي أحد المجاهرة بنقيضها. على أنه بعد حدوث الأزمة المالية العالمية، بدأت بعض الأصوات العاقلة في التخفيف من غلواء هذا التوجه، والمناداة بتطبيق ما هو أصلح وأنسب لتلك الاقتصادات.
رابعا: أن مصر حين قامت بتنفيذ تلك التوجهات لم يكن بمقدورها الوقوف أمام تلك الرياح العاتية التي تجتاح العالم من حولها في ذلك الوقت. ولكن بعد حدوث ثورة 25 يناير 2011، فقد أصبح من الممكن الآن إعادة النظر في العديد من تلك التوجهات، والعمل وفق منهجية متكاملة تأخذ من التخطيط الاستراتيجي أساسا لها، وتضع رؤى وآليات يمكن أن يتحرك الاقتصاد من خلالها في الفترة القادمة.
خامسا: ضرورة إتباع استثمارات ذات أساليب تقنية تنحاز للأساليب كثيفة العمل، للتخفيف من وطأة البطالة التي تعاني منها مصر. ولعل ما تحتاجه مصر هو قيام حركة تصنيع وتنمية شاملة على المستوى القومي، يراعى فيها ربط أي مشروع كبير بمجموعة من المشروعات الصغيرة والمتوسطة، وإتاحة تحالفات قوية بين هاتين الطائفتين من المشروعات. أما فيما يتعلق ببرنامج الخصخصة، فيمكن الاحتفاظ ببقية المشروعات التي ما زالت مملوكة للدولة، مع فصل الملكية فيها عن الإدارة تماما، فتتم إدارة تلك الأصول بأعلى كفاءة ممكنة، ثم استخدام عوائد تلك المشروعات في تمويل مشروعات جديدة يتم إنشائها بالمشاركة بين الدولة والقطاع العام.
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]2 من جمادى الأولى عام 1432 من الهجرة ( الموافق 5 من إبريل عام 2011 )
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]