إليك أمي قطرات من بحر حبك (2)
م. عبد اللطيف البريجاوي
القطرة الثانية
أنا صادق في برِّك فأعينيني
لم أكن في يوم من الأيّام عاقّاً أو شقيّاً وإن بدر مني ما يوحي بذلك, فكيف أعقّك وأنت وصيّة نبينا وحبيبنا محمّد صلّى الله عليه وسلم ثلاثاً؛ فعَن أَبِي هُرَيرَةَ رَضِيَ اللَّهُ عَنهُ قَالَ: جَاءَ رَجُلٌ إِلَى رَسُولِ اللَّهِ صَلَّى اللَّهُ عَلَيْهِ وَسَلَّمَ فَقَالَ: يَا رَسُولَ اللَّهِ مَنْ أَحَقُّ النَّاسِ بِحُسْنِ صَحَابَتِي؟ قَالَ: أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أُمُّكَ قَالَ: ثُمَّ مَنْ؟ قَالَ: ثُمَّ أَبُوك» [البخاري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة]
« قال ابن بطّال: مقتضاه أن يكون للأم ثلاثة أمثال ما للأب من البرِّ، قال: وكان ذلك لصعوبة الحمل ثم الوضع ثم الرضاع، فهذه تنفرد بها الأم وتشقى بها، ثم تشارك الأب في التربية» [فتح الباري كتاب الأدب- باب من أحق بحسن الصحبة].
أم كيف أعقّك وقد جعلك الله بين الصلاة والجهاد, كأفضل الأعمال عند الله سبحانه وتعالى, ولعمري كيف يفرّط المرء بأفضل أعماله عند الله وهي في متناول يده, فعن عبدِ اللّهِ بن مسعود رضي الله عنه قَالَ: سَأَلتُ رَسُولَ اللّهِ : أَيُّ الأَعْمَالِ أَحَبُّ إِلَى اللّهِ ؟ قَالَ: «الصَّلاَةُ عَلَى وَقْتِهَا » قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ؟ قَالَ «ثُمَّ بِرُّ الْوَالِدَيْنِ» قُلْتُ: ثُمَّ أَيٌّ ؟ قَالَ « ثُمَّ الّجِهَادُ فِي سَبِيلِ اللّهِ»[متفق عليه].
لكنّها لحظة الضعف, وسكرة العلم, وعنفوان الشباب؛ التي جعلت مني متشوّقاً إلى الأمام, ناسياً ورائي ذلك العهد الجميل الذي كنْتُ فيه ملاكاً صغيراً بين يديك؛ تقلبيني كيف شئتِ وتصنعي منّي ما شئت, حتى إذا دبَّ فيَّ هذا العنفوان نفضتُ عنّي كل ذلك نفضَ المتمرّد غير العاقّ, والمتشوّق غير الناسي, فحلمتُ بعالم جديد؛ عالم فيه أصدقاء وأصحاب وخلاّن وسمّار؛ فيه سهرات وحفلات وأغنيات وأشعار, وطفت أقترب منه غير آبه بنتائجه, فهو العالم الجديد الذي ضحك لي فظننْت ضحكاتِه أجملَ من ضحكاتك, وتقرب إليّ فظننت قربَه أجملَ من قربِك, وأطمعني بسهراته فظننت سهراتِه ألطفَ من سهراتك, وشوّقني لسمره فظننت أن سمَره أهنأ من السمر معك.
ورحت أسكر بسمرهم وضحكاتهم زمناً لا أعده الآن من عمري حتى نسيت حقوقك في عنقي.
رأيت في سمرهم متعة؛ لكن لا تعادل متعة الجلوس معك, ورأيت في ضحكاتهم ترويحاً؛ لكنّها لا تعادل راحة صدري عندما أرى ضحكاتك.
إنّي – والله يا أمّي - لو عاد الزمان بي لما اخترت سهرة إلا وأنت سميرُها ولا أسعدتني ضحكة إلا أنت عبيرُها.
أنا صادق في برّك فاقبلي عذري وسامحيني.
تعالي نمسح ذلك العقوق منّي بكلمة الرضا من شفتيك فقد اشتقت إليها اشتياق أم موسى إلى موسى عليهما السلام.
أعينيني على مسح ما مضى مني بكلمة الرضا تمسحي بها ألمي وتجدّدي بها أملي وتريحي بها فؤادي وضميري.
أمّي أنا صادق في برِّك فأعينيني
وأنا أعتذر منك فهل قلبك يتّسع؟
[ندعوك للتسجيل في المنتدى أو التعريف بنفسك لمعاينة هذا الرابط]